كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ونأتي للصفحة الأخيرة من صحائف الأقوام المكذبة في تلك الحقبة من التاريخ.. صفحة مدين وأخيهم شعيب:
{وإلى مدين أخاهم شعيبًا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجًا واذكروا إذ كنتم قليلًا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين}..
{قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبًا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علمًا على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبًا إنكم إذًا لخاسرون فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين الذين كذبوا شعيبًا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبًا كانوا هم الخاسرين فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين}..
إننا نجد شيئًا من الإطالة في هذه القصة، بالقياس إلى نظائرها في هذا الموضع، ذلك أنها تتضمن غير قضية العقيدة شيئًا عن المعاملات، وإن كانت القصة سائرة على منهج الاستعراض الإجمالي في هذا السياق.
{وإلى مدين أخاهم شعيبًا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.
فهي قاعدة الدعوة التي لا تغيير فيها ولا تبديل.. ثم تبدأ بعدها بعض التفصيلات في رسالة النبي الجديد: {قد جاءتكم بينة من ربكم}..
ولا يذكر السياق نوع هذه البينة- كما ذكرها في قصة صالح- ولا نعرف لها تحديدًا من مواضع القصة في السور الأخرى. ولكن النص يشير إلى أنه كانت هناك بينة جاءهم بها، تثبت دعواه أنه مرسل من عند الله. ويرتب على هذه البينة ما يأمرهم به نبيهم من توفية الكيل والميزان، والنهي عن الإفساد في الأرض، والكف عن قطع الطريق على الناس، وعن فتنة المؤمنين عن دينهم الذي ارتضوه:
{فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجًا واذكروا إذ كنتم قليلًا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين}..
وندرك من هذا النهي أن قوم شعيب، كانوا قومًا مشركين لا يعبدون الله وحده، إنما يشركون معه عباده في سلطانه؛ وأنهم ما كانوا يرجعون في معاملاتهم إلى شرع الله العادل؛ إنما كانوا يتخذون لأنفسهم من عند أنفسهم قواعد للتعامل- ولعل شركهم إنما كان في هذه الخصلة- وأنهم- لذلك- كانوا سيئي المعاملة في البيع والشراء؛ كما كانوا مفسدين في الأرض، يقطعون الطريق على سواهم.
ظلمة يفتنون الذين يهتدون ويؤمنون عن دينهم، ويصدونهم عن سبيل الله المستقيم؛ ويكرهون الاستقامة التي في سبيل الله؛ ويريدون أن تكون الطريق عوجاء منحرفة، لا تمضي على استقامتها كما هي في منهج الله.
ويبدأ شعيب عليه السلام بدعوتهم إلى عبادة الله وحده وإفراده سبحانه بالألوهية، وإلى الدينونة له وحده وإفراده من ثم بالسلطان في أمر الحياة كله.
يبدأ شعيب عليه السلام في دعوتهم من هذه القاعدة؛ التي يعلم أنه منها تنبثق كل مناهج الحياة وكل أوضاعها؛ كما أن منها تنبثق قواعد السلوك والخلق والتعامل. ولا تستقيم كلها إلا إذا استقامت هذه القاعدة.
ويستصحب في دعوتهم إلى الدينونة لله وحده، وإقامة حياتهم على منهجه المستقيم، وترك الإفساد في الأرض بالهوى بعدما أصلحها الله بالشريعة.. يستصحب في دعوتهم إلى هذا كله بعض المؤثرات الموحية.. يذكرهم نعمة الله عليهم:
{واذكروا إذ كنتم قليلًا فكثركم}.
ويخوفهم عاقبة المفسدين من قبلهم:
{وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين}..
كذلك يريد منهم أن يأخذوا أنفسهم بشيء من العدل وسعة الصدر؛ فلا يفتنوا المؤمنين الذين هداهم الله إليه عن دينهم، ولا يقعدوا لهم بكل صراط، ولا يأخذوا عليهم كل سبيل، مهددين لهم موعدين، وأن ينتظروا حكم الله بين الفريقين. إن كانوا هم لا يريدون أن يكونوا مؤمنين:
{وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين}..
لقد دعاهم إلى أعدل خطة. ولقد وقف عند آخر نقطة لا يملك أن يتراجع وراءها خطوة.. نقطة الانتظار والتريث والتعايش بغير أذى، وترك كلٍّ وما اعتنق من دين، حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.
ولكن الطواغيت لا يرضيهم أن يكون للإيمان في الأرض وجود ممثل في جماعة من الناس لا تدين للطاغوت.. إن وجود جماعة مسلمة في الأرض، لا تدين إلا لله، ولا تعترف بسلطان إلا سلطانه، ولا تحكم في حياتها شرعًا إلا شرعه، ولا تتبع في حياتها منهجًا إلا منهجه.. إن وجود جماعة مسلمة كهذه يهدد سلطان الطواغيت- حتى لو انعزلت هذه الجماعة في نفسها، وتركت الطواغيت لحكم الله حين يأتي موعده.
إن الطاغوت يفرض المعركة فرضًا على الجماعة المسلمة- حتى لو آثرت هي ألا تخوض معه المعركة- إن وجود الحق في ذاته يزعج الباطل. وهذا الوجود ذاته هو الذي يفرض عليه المعركة مع الباطل.. إنها سنة الله لابد أن تجري.
{قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا}.
هكذا في تبجح سافر، وفي إصرار على المعركة لا يقبل المهادنة والتعايش!
إلا أن قوة العقيدة لا تتلعثم ولا تتزعزع أمام التهديد والوعيد.. لقد وقف شعيب عليه السلام عند النقطة التي لا يملك أن يتزحزح وراءها خطوة.. نقطة المسالمة والتعايش- على أن يترك لمن شاء أن يدخل في العقيدة التي يشاء؛ وأن يدين للسلطان الذي يشاء: في انتظار فتح الله وحكمه بين الفريقين- وما يملك صاحب دعوة أن يتراجع خطوة واحدة وراء هذه النقطة، تحت أي ضغط أو أي تهديد من الطواغيت.. وإلا تنازل كلية عن الحق الذي يمثله وخانه.. فلما أن تلقى الملأ المستكبرون عرضه هذا بالتهديد بالإخراج من قريتهم أو العودة في ملتهم، صدع شعيب بالحق، مستمسكًا بملته، كارهًا أن يعود في الملة الخاسرة التي أنجاه الله منها، واتجه إلى ربه وملجئه ومولاه يدعوه ويستنصره ويسأله وعده بنصرة الحق وأهله:
{قال أو لو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبًا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علمًا على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين}..
وفي هذه الكلمات القلائل تتجلى طبيعة الإيمان، ومذاقه في نفوس أهله، كما تتجلى طبيعة الجاهلية ومذاقها الكريه. كذلك نشهد في قلب الرسول ذلك المشهد الرائع.. مشهد الحقيقة الإلهية في ذلك القلب وكيف تتجلى فيه.
{قال أو لو كنا كارهين}.
يستنكر تلك القولة الفاجرة: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا}.. يقول لهم: أتجبروننا على ما نكره من ملتكم التي نجانا الله منها؟!
{قد افترينا على الله كذبًا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها}..
إن الذي يعود إلى ملة الطاغوت والجاهلية، التي لا يخلص فيها الناس الدينونة والطاعة لله وحده، والتي يتخذ الناس فيها أربابًا من دون الله يقرون لهم بسلطان الله.. إن الذي يعود إلى هذه الملة- بعد إذ قسم الله له الخير وكشف له الطريق، وهداه إلى الحق، وأنقذه من العبودية للعبيد- إنما يؤدي شهادة كاذبة على الله ودينه. شهادة مؤداها أنه لم يجد في ملة الله خيرًا فتركها وعاد إلى ملة الطاغوت! أو مؤداها- على الأقل- أن لملة الطاغوت حقًا في الوجود، وشرعية في السلطان؛ وأن وجودها لا يتنافى مع الإيمان بالله. فهو يعود إليها ويعترف بها بعد أن آمن بالله.. وهي شهادة خطيرة أخطر من شهادة من لم يعرف الهدى، ولم يرفع راية الإسلام.
شهادة الاعتراف براية الطغيان. ولا طغيان وراء اغتصاب سلطان الله في الحياة!
وكذلك يستنكر شعيب عليه السلام ما يتهدده به الطغاة من إعادته هو والذين آمنوا معه إلى الملة التي أنجاهم الله منها:
{وما يكون لنا أن نعود فيها}..
وما من شأننا أصلًا؛ وما ينبغي لنا قطعًا أن نعود فيها.. يقولها وأمامه التهديد الذي يزاوله الطاغوت في كل أرض مع الجماعة المسلمة، التي تعلن خروجها عن سلطانه، ودينونتها لله وحده بلا شريك معه أو من دونه.
إن تكاليف الخروج من العبودية للطاغوت والدينونة لله وحده- مهما عظمت وشقت- أقل وأهون من تكاليف العبودية للطواغيت! إن تكاليف العبودية للطواغيت فاحشة- مهما لاح فيها من السلامة والأمن والطمأنينة على الحياة والمقام والرزق!- إنه تكاليف بطيئة طويلة مديدة! تكاليف في إنسانية الإنسان ذاته فهذه الإنسانية لا توجد، والإنسان عبد للإنسان- وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان؟!.. وأي عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان آخر به، ورضاه أو غضبه عليه؟!.. وأي عبودية شر من أن تتعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله ورغباته وشهواته؟! وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام يقوده منه كيفما شاء إنسان؟!
على أن الأمر لا يقف عند حد هذه المعاني الرفيعة.. إنه يهبط ويهبط حتى يكلف الناس- في حكم الطواغيت- أموالهم التي لا يحميها شرع ولا يحوطها سياج. كما يكلفهم أولادهم إذ ينشئهم الطاغوت كما شاء على ما شاء من التصورات والأفكار والمفهومات والأخلاق والتقاليد والعادات. فوق ما يتحكم في أرواحهم وفي حياتهم ذاتها، فيذبحهم على مذبح هواه، ويقيم من جماجمهم وأشلائهم أعلام المجد لذاته والجاه! ثم يكلفهم أعراضهم في النهاية.. حيث لا يملك أب أن يمنع فتاته من الدعارة التي يريدها بها الطواغيت، سواء في صورة الغصب المباشر- كما يقع على نطاق واسع على مدار التاريخ- أو في صورة تنشئتهن على تصورات ومفاهيم تجعلهن نهبًا مباحًا للشهوات تحت أي شعار! وتمهد لهن الدعارة والفجور تحت أي ستار.. والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبنائه وبناته في حكم الطواغيت من دون الله. إنما يعيش في وهم، أو يفقد الإحساس بالواقع!
إن عبادة الطاغوت عظيمة التكاليف في النفس والعرض والمال.. ومهما تكن تكاليف العبودية لله، فهي أربح وأقوم حتى بميزان هذه الحياة. فضلًا على وزنها في ميزان الله..
يقول السيد أبو الأعلى المودودي في كتاب: الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية:
... وكل من له أدنى بصيرة بمسائل الحياة الإنسانية، لا يخفى عليه أن المسألة- التي تتوقف عليها قضية صلاح الشؤون البشرية وفسادها- إنما هي مسألة زعامة الشؤون البشرية ومن بيده زمام أمرها.
وذلك كما تشاهد في القطار أنه لا يجري إلا إلى الجهة التي يوجهه إليها سائقه، وأنه لابد للركاب أن يسافروا- طوعًا أو كرهًا- إلى تلك الجهة نفسها. فكذلك لا يجري قطار المدنية الإنسانية إلا إلى جهة يوجهه إليها من بأيديهم زمام أمر تلك المدنية. ومن الظاهر البين أن الإنسانية بمجموعها لا تستطيع بحال من الأحوال أن تأبى السير على تلك الخطة التي رسمها لهم الذين بأيديهم وسائل الأرض وأسبابها طرًا، ولهم الهيمنة كل الهيمنة على أزمة الأمر، وبيدهم السلطة المطلقة في تدبير شؤون الإنسانية، وتتعلق بأذيالهم نفوس الجماهير وآمالهم، وهم يملكون أدوات تكوين الأفكار والنظريات وصوغها في قوالب يحبونها، وإليهم المرجع في تنشئة الطباع الفردية، وإنشاء النظام الجماعي، وتحديد القيم الخلقية. فإذا كان هؤلاء الزعماء والقواد ممن يؤمنون بالله ويرجون حسابه.. فلابد لنظام الحياة بأسره أن يسير على طريق من الخير والرشد والصلاح، وأن يعود الخبثاء الأشرار إلى كنف الدين ويصلحوا شؤونهم. وكذلك تنمو الحسنات ويزكو غراسها، وأقل ما يكون من تأثير المجتمع في السيئات أنها لا تربو. إن لم تمحق وتنقرض آثارها. وأما إذا كانت هذه السلطة- سلطة الزعامة والقيادة والإمامة- بأيدي رجال انحرفوا عن الله ورسوله، واتبعوا الشهوات، وانغمسوا في الفجور والطغيان، فلا محالة أن يسير نظام الحياة بقضه وقضيضه على البغي والعدوان والفحشاء، ويدب دبيب الفساد والفوضى في الأفكار والنظريات والعلوم والآداب والسياسة والمدنية والثقافة والعمران والأخلاق والمعاملات والعدالة والقانون برمتها، وتنمو السيئات ويستفحل أمرها.